تاريخ السفاحين مع الركض! | مصراوى
تدور رواية “القتلة يحتفلون بالفلانتين” للروائي محمد صفوت حول قاتل محترف يُدعى ناجي يختبئ خلف ثلاجة في منزل سيدة تُدعى ملك. يُصور الكاتب الشخصية بعمق إنساني، مما يجعلك تتعاطف معها رغم جرائمها. تتناول الرواية الصراع الداخلي بين الخير والشر للمجرم، وتُبرز جانبًا فلسفياً لتبرير القتل كوسيلة لتصحيح الأوضاع وإقامة العدل من وجهة نظره. تتنوع الإسقاطات والرَمزية في العمل لتعكس أزمات طبقات اجتماعية واقتصادية. تستغل الرواية تقنيات السرد الحديثة مثل “الفلاش باك” و”كسر الإيهام”، مما يجعلها غنية بالرمزية والإبداع.
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
«من قال لكم إنّ الصقر يهوى التحليق؟
ربما يبحث الجسدُ المرهق عن أرضٍ غير مزروعة بالفخاخ» (ص 8).
في مفتتح «القتلة يحتفلون بالفلانتين» (دار المحرر، 2024)، يبني الروائي محمد صفوت أسس الحكاية التي تنطلق منها روايته؛ إذ «لا يطيق القتلة المحترفون أن ترتاح أقدامهم على أرضٍ ثابتة. يبحثون دائمًا عن البراح المُتسع قدر أرواحهم القلِقة» (ص 87).
ولأن «للقتلة دائمًا تاريخٌ مع الركض» (ص 87)، فإننا نتابع حكاية قاتل مختبئ خلف ثلاجة أميركية عتيقة وضخمة، في منزل به «كوكتيل كاملٌ من الفوضى يجعله مُرتبكًا وحذرًا» (ص 9).
«تمنى أن يرحل دون أن يثير مزيدًا من الإزعاج لسيدة المنزل التي استضافته دون أن تعلم أن ثمة قاتلًا محترفًا يرقد خلف ثلاجة مطبخها. يأكل من بقايا طعامها، يسرق من علبة سجائرها، ويستخدم مرحاضها. أسبوع كامل يتلصص على تفاصيل طقوس وحدتها، وعلى أسرار زبوناتها منذ أن تخطى سور منزلها العتيق هربًا من المطاردات الأمنية المستمرة التي لاحقته منذ أن نجح كالعادة في الهرب من السجن حتى جرفته المطاردات أمامها إلى تلك المدينة الساحلية البعيدة ليجد نفسه فجأة أمام سور هذا المنزل الذي نبت في وجهه فجأة كشجرةٍ عجوز» (ص 9-10).
خلف ثلاجة سيدة المنزل مدام «ملك»، كانت تصل «ناجي» كلمة واحدة متكررة في كل الجُمل المبتورة التي يسمعها: «الفلانتين». «كلمة مُبهمة أثارت سخريته؛ إذ يخلو قاموسه كقاتل محترف من مثل هذه الكلمات الكرنفالية التي تُخلي مطرحها لكلماتٍ أكثر وعورة وواقعية» (ص 10).
السفاح هنا شخصية غير اعتيادية لها فلسفتها الخاصة. قاتل محترف يرتكب جرائم بالمجان أحيانًا من أجل تصحيح الأوضاع أو إقامة العدل الذي يراه!
«مثل هؤلاء كان ناجي يتخلص منهم معتقدًا أنهم يشكِّلون عبئًا ثقيلًا على الحياة. كأنهم مجرد زوائد وترهلات من ديون عديمة القيمة في جسد هذه الحياة يجب التخلص منهم لتواصل الحياة سيرها برشاقة» (ص 82).
«من خلال القتل عَرَفَ أن من العباد من يكون خيره وخير الدنيا في مقتله وإزالة اسمه ورسمه من صفحة العالم. ومنهم من كان القتل له لطفًا من الله وتعطفًا. سيبدو العالم أفضل لو خصمنا من تاريخه بعض الشخصيات» (ص 45-46).
«تعوَّد أن يعيش حياته هكذا منذ زمن. مُعلَّقًا في الفراغ. مموهًا. تتعدد حيواته بتعدد شخوصه كما تتعدد أسماؤه وأماكنه. يجمع كل ذلك قاسمٌ مشترك.. ناجي نفسه الذي لم تذبْ ملامحُ شخصيته أو تتماهى مع أي من هذه الشخوص. كأنه ممثل مسرحي قدير يؤدي شخصيته المرسومة على الورق بحرفية كاملة. وبعد انتهاء العرض يطرح بملل هذه الشخصية على خشبة المسرح» (ص 40).
تتعدد إسقاطات الرواية وترميزاتها؛ إذ تنطلق من الخاص إلى العام فتعكس أزمات أجيال بأكملها، وتبرز انكسارات طبقات اجتماعية واقتصادية متوسطة ودنيا أكلتها الطبقات العليا.
يتوقّف الروائي عند موضوعات شائكة وشائقة في عمله الذي تشبّع برمزيّات متماسكة. ويوظّف تشبيهات واستعارات ثاقبة ومضحكة في الرواية، ويوظّف عامل السخرية ليخفّف من قسوة الواقع.
في «القتلة يحتفلون بالفلانتين» ثمة لحظات هروب من الواقع المعيش، من تفاصيل الحياة اليومية، من النمطي والمألوف، ومن العالم الحقيقي برمته.
بذكاء أيضًا، وظّف محمد صفوت تقنية «الفلاش باك»، إضافة إلى تقنية «كسر الإيهام» عبر عدم إشباع توقعات المتلقي.
بوصلة الكراهية والحقد كانت تقود الآخرين إليه، فقرر احتراف القتل.
«ما دمتم قد وضعتموني على حافة القتل فلتموتوا جميعًا وتهبوني الحياة، ليكن القتل ما دمتم ترون أن القتل من أعظم اختراعات الإنسانية، إبليس نفسه لم يُضبط يومًا بحوزته سكين مُلطخ بالدم ولم يجد خبراء المعامل الجنائية شعيرات من فروة رأسه بين أظافر الضحايا. لتكن محرقة. نارها ليست بردًا ولا سلامًا عليكم بل حممًا تلفح وجوهكم وتُطهِّركم تطهيرًا. ليكن طوفانًا يعلو الجميع. لا سفينة ولا نوح ولا من كل زوجين اثنين، وعندما تبتلعكم الأرضُ في قرارها المكين، تخرج الشمس من مخدعها وتشدُّ ستائرَها على الليل المظلم، ليبدأ نهارٌ آخر، تتشكَّل خلاله الأشياء من جديد، لعل الطبيعة تتلافي خطاياها السابقة هذه المرة» (ص 93).
في جو من الإثارة والتشويق، ترصد الرواية عبر 174 صفحة من القطع المتوسط، التحولات الرهيبة للنفس البشرية في اللحظات الفارقة التي تواجهها، وتتناول هذه التناقضات التي تسكنها، فعبر أجواء القتلة، وطقوس العشاق يتجلى السرد ليزيل النقاب عن هذا القاتل الذي يسكن دومًا بداخلنا منتظرًا لحظة انطلاقه، وهذا العاشق المتواري الذي يتخفى في أكثرنا دموية.
نحن أمام رواية مكتوبة برهافةٍ تجرح وبلغة تتجاوز الوصف الروائي إلى بلاغة النثر. رواية قصيرة ذكية مبدعة غنية بأسلوبها ولغتها وأفكارها ورمزيتها. وهي عملٌ يزخر بالتأويلات المتعددة، من كاتبٍ يرسم لصوته مداراتٍ جديدة.
تدور الرواية حول قاتل محترف، ولكن الكاتب يجعلك تتعاطف معه من خلال الجانب الإنساني للقتل الذي تجمعه الكثير من المواقف الإنسانية مع ضحاياه (مثل المخرج التليفزيوني السابق أحمد الكاشف)، من خلال الصراع الداخلي للبطل ما بين الشر والخير. وعبر أحداث الرواية، تتناوب نزعة الخير ونزعة الشر على الفوز وفق كل موقف يقع مع ضحية مختلفة.
وما بين القاتل المختبئ والسيدة التي عملت من قبل مدرسة علم نفس، واستغلت يومًا حديقة منزلها لتربية النحل، ثم استقرت أخيرًا على أن تجعل من بيتها ما يشبه محل كوافير نسائي، يحدث الكثير في هذه الرواية الشائقة.
ولأن «الحنين إلى شيء ما أكبرُ مآزق الإنسانية» (ص 107)، فقد يعاود «ناجي» التسلل إلى منزل السيدة بعد فترة من الهروب والاختباء، فيتفحص في -غيابها- غرفة نومها ورسائل حبيبها الغائب في إيطاليا «يوسف» وصورها الخاصة. «كخبير أرواح أدرك أن روحها حبيسة في قارورة عميقة ترتج داخلها» (ص 54).
في لعبةٍ موسيقية غامضة، يكتب لها «ناجي» رسائل باسم الحبيب الغائب «يوسف»، ثم يكتب لها رسائل جديدة باسمه كاشفًا عن حقيقته، وهي تدمن انتظار رسائل الغائبين!
وما بين الطعام الذي تعده له مساءً، فيتسلل لالتهامه، والحيل اللطيفة بين سيدة وحيدة وقاتل، ينبتُ حلم الوصال.
«استمرت الموسيقى تتسرب بعيون نائمة من كمنجته، ذهب كلاهما إلى منطقة حلمه الخاص، كانت ملك في مشهد من فيلم قديم، حفلة تنكرية تغني فيها ليلى مراد وهي ترقص مع أنور وجدي، الكل يرتدي أقنعة سوداء تحجب ملامحه، رفضت أن ترتدي قناعًا واكتفت بملابس طائر حزين له أجنحة بيضاء، لم يكن ناجي الذي لا تعرف ملامحه موجودًا، لم يتعوَّد على أحلامٍ مبهجة من قبل؛ لذا كان يركض وحيدًا خلال حلمه في مشهد بلا ديكورات أو حوائط، استدعته ملك إلى مشهدها بقوة روحها، أعطت له العنوان بالكامل، كان الطريق يتوه منه، تصرخ فيه انعطف يمينًا…هناك عند هذه القبة السماوية الزرقاء ستسمع صوت ليلى مراد.
«عندما وصل ترك أسماله على الباب، دخل الحفل بزي قبطان يضع قناعًا أسود على وجهه، استقبلته ملك، عرفته من خلال رائحة عطره، قدَّمتْ له كأسًا من نبيذها المعتق لينعش قلبه، طلبها للرقص على أغنية ليلى مراد، نزعتْ قناعه، رأت ملامحه للمرة الأولى، تحسستها بيديها، اقترب منها، يزلزله شوق على شوق، احتضنها بين يديه وراحا في عناق طويل بينما كانت السيدة ليلى مراد تعيد مقطوعتها كلما انتهت، ربما كي لا تزعجهما، وربما حتى لا ينقطع الحلم» (ص 132-133).
تنفتح الرواية على مخزون هائل من الخبرات الحياتية، والهواجس، والأماني، والأحلام، تقنع بالشرط ولا تقع في إساره. تتخذ صيغًا متعددة، وأشكالًا مختلفة، ومن ثم فلا يمكن حصرها في سياق ولا تقييدها بمسار. تحتفي بالفن، والجمال، والإبداع.
في لحظة يأس من علاقتها بشبح، تحاول «ملك» الانتحار.
«تناولُ القهوة مفيد قبل الموت؛ ربما لأنها تجعلنا نواجه الموت بيقظة كافية. أعدت فنجانها. دارت بتثاقل في أنحاء المنزل، كأنها تودِّع أشياءها. تلك الأشياء التي تعيش معنا طيلة الوقت وترفض أن تموت معنا؛ ربما كي نشعر بالوحدة في الموت أيضًا، أو ربما لأن للموت أشياؤه الخاصة» (ص 170-171).
الموت في الرواية طريقة لإضفاء معنى على الألم.
«تتعكز روحها على يد الموسيقى، والموسيقى لا تنام، تحملها على ظهرها كالعادة، تحملها خفيفة وهي تستعد لليقظة الكاملة» (ص 173-174).
إرسال التعليق