الجنوبي وسعيه نحو السعادة
الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها. “الهم الميتافيزيقي” أو “عطش الروح” يُسكن قلوب أبناء صعيد مصر، الفقير والمظلوم، مما يدفعهم للتأمل والبحث عن معنى حياتهم. بهاء طاهر، أحد أبناء الصعيد، تميز بعمق فكره ونبله، وعالج من خلال أعماله الأدبية صراع الشرق والغرب. علاقاته الأدبية بين الشخصيات المصرية والغربية أشارت إلى عدم قدرتها على النجاح بسبب نقص الفهم والتقبل. هزيمة 1967 أثرت كثيرًا في جيله. رغم الأحزان، احتفظ طاهر بأحلام مستحيلة، مؤمنًا بقدرة الفكر والثقافة على التغيير. علمنا في أعماله الأخيرة أن السعادة والمعرفة يجب أن تكون الأهداف الأساسية.
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
تقول إحدى الأساطير القديمة إن الآلهة قد خلقت الإنسان من “الهم”. وهذا الهم الذي يُسميه أديبنا الكبير الراحل الأستاذ بهاء طاهر “الهم الميتافيزيقي” أو “عطش الروح” يَسكُن أرواح وقلوب أبناء صعيد مصر، يتوارثه الأبناء عن الآباء والأجداد؛ لأن الصعيد البعيد عن العاصمة ومركز الحكم، الفقير في موارده الاقتصادية، الذي تكاد تنعدم به فرص العمل والحياة المرفهة والعدالة الثقافية، قد أتاح لبعض أبنائه المتميزين من الوقت ما دفعهم إلى القراءة العميقة، والتفكير والتأمل في وضعية الإنسان على الأرض، وفي علاقته مع الله والبشر والحياة.
وكان لا بد أن تنطلق مع طول هذا التأمل تجربة دينية وفكرية وأدبية، تختلف في درجة عمقها والتعبير عنها من إنسان لآخر، لكنها تستهدف بالإجمال محاولة الإجابة عن التساؤلات التي تدور في ذهن الإنسان الصعيدي المشغول بتحقيق ذاته، والبحث عن معنى لحياته وقيمة لوجوده، والمُهتم دائمًا بفكرة البطولة والفروسية والمثل الأعلى.
وإذا ما استخدمنا لغة الراحل الدكتور “جمال حمدان”، فيمكن القول إن للصعيد خصوصية معينة شكلت مزاج أبنائه وجعلتهم أميل للتأمل والتفكير والبحث عن الحكمة ومعنى الحياة وغايتها.
وهذا المزاج الفكري هو منبع الهم الميتافيزيقي والحزن الجنوبي الذي يسكن أرواح معظم البشر هناك؛ وقد ورد في سفر الجامعة بالعهد القديم “لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم، والذي يزيد علمًا يزيد حزنًا”.
ويمكن أن نجد في هذا التحليل تفسيرًا لسر الحزن والهم الوجودي الميتافيزيقي الساكن في ثنايا إبداع مجمل كتاب الستينيات القادمين من الجنوب إلى القاهرة، الذين عاشوا تغريبة الجنوبي في “مدينة قاسية بلا قلب” مثل يحيى الطاهر عبد الله، وأمل دنقل، وعبد الرحمن الأبنودي، وعبد الرحيم منصور،.
والساكن كذلك في إبداع أديبنا الكبير الراحل بهاء طاهر المولود في 13 يناير عام 1935 في محافظة الجيزة لأسرة تنتمي إلى قرية الكرنك بجنوب مصر، والذي حمل بدوره هذه السمات الجنوبية، فكان أهم ما يميزه هو ملامحه الفكرية والنفسية البادية للعيان، وعمقه المذهل الذي يبعث في قلب محدثة رهبة وإجلالًا عميقًا، فكأنه في حضرة صوفي كبير أو فيلسوف أو قديس.
كما تمتع بهاء طاهر الإنسان بفضائل نادرة؛ مثل التحضر والرقي في السلوك، وسعة المعرفة، وثراء الموهبة، وعمق التجربة، ودماثة الخلق، والجمال والوقار والجلال، والتعفف عن صغائر الأمور والناس والأحداث.
أما بهاء طاهر الروائي، فقد كان يُفضل العزلة، ويبتعد دائمًا عن صخب الحياة الأدبية ووسائل الإعلام. كما كان قليل الكتابة يُفضل الانتظار والتمهل حتى تتسع الرؤية، ويبوح له العمل بسره، ويخرج للناس وهو راضٍ عنه بقدر الإمكان.
وقد كان لتجربة بهاء طاهر في العمل في جينيف كمترجم بالأمم المتحدة أعظم الأثر في زيادة معرفته بالحياة وبالآخر الغربي، وفي إرهاف وعيه الإنساني؛ ولهذا كانت الفكرة الأساسية في الكثير من أعماله الأدبية هي علاقة الشرق بالغرب، وما بينهما من صراع وتوافق.
وقد ظهر هذا البعد الفكري والإنساني في روايته الأخيرة “واحة الغروب”، عالجه من خلال العلاقة بين الضابط المصري “محمود عبد الظاهر” وزوجته الأيرلندية “كاثرين”. كما عالجه من قبل في قصة “بالأمس حلمت بك” من خلال العلاقة بين “شخصية الراوي البطل، وشخصية الشابة الأوروبية الشقراء “آن ماري”.
كما عالج تلك العلاقة أيضًا في رواية “الحب في المنفى” من خلال العلاقة بين الفتاة النمساوية الجميلة “بريجيت” وبطل الرواية الصحفي المصري المُثقل بالهزائم الشخصية والوطنية، الذي يعيش في المنفى الاختياري في جنيف. وعالجه كذلك في قصة “أنا الملك جئت” من خلال العلاقة بين الفتاة الفرنسية الرقيقة “مارتين” والدكتور فريد، طبيب العيون المصري.
ويُلاحظ أن العلاقة بين الشرق والغرب في تلك الأعمال جاءت مضطربة، ولم يُكتب لها النجاح، لأنها لم تُؤسس عند أطرافها على معرفة وافية وفهم عميق بالآخر واحتياجاته، وقبول للاختلاف والتمايز بينهما، بل إنها انتهت في قصة “بالأمس حلمت بك” بانتحار البطلة “آن ماري”؛ لما تعانيه من حيرة فكرية وخواء روحي وفقدان للمعنى. كما انتهت في رواية “واحة الغروب” بانتحار الضابط “محمود عبد الظاهر”؛ بسبب إحساسه بالفشل والهزيمة على جميع الأصعدة.
وبهاء طاهر مثل معظم أبناء جيل الستينيات؛ امتلأ قلبه بالكثير من الأحلام الشخصية والوطنية، ولكن جاءت هزيمة يونيو 1967 لتعصف بكل تلك الأحلام؛ ولهذا أجد في “شخصية الراوي” في قصة “بالأمس حلمت بك” معادلًا موضوعيًا لشخصية “بهاء طاهر” ذاته؛ فالراوي الذي يعيش في إحدى دول الشمال الأوروبي عيشة قوامها الرتابة وخيبة الأمل والحزن، يقابل الفتاة الشقراء “آن ماري” التي يستفزها بصمته وغموضه وأحياناً لا مبالاته، فتوجه له سؤالًا حول أفكاره وما يشغله.
ويُجيبها هو بدوره فيقول: “في الواقع كانت عندي أفكار فيما مضى، لكن الآن نسيتها، في بلدي لم يكن أحد يحتاج إليها ولا إليّ، فقررت أن أنساها، نسيت أشياء كثيرة”.
وفي لقاء آخر تلح “آن ماري” لتعرف ماذا يريد؟
فيُجيب: ما أريده مستحيل.
– ما هو؟
– أن يكون العالم غير ما هو، والناس غير ما هم. قلت لك ليست عندي أفكار، ولكن عندي أحلام مستحيلة.
وقد عاش الأستاذ بهاء طاهر – رحمة الله عليه – حتى تجاوز عامه السابع والثمانين، وظل رغم مشاعر الحزن الساكن فيه، ورغم اليأس الذي كان يصيب روحه من وقت لآخر يحمل الأحلام المستحيلة ذاتها، ويؤمن بقدرة الفكر والثقافة و”أبناء رفاعة” على إحداث تغيير حقيقي يرتقي بمجتمعاتنا وناسها نحو الأفضل.
ولكني أظن أن الدرس الأعمق الذي تعلمه الجنوبي الراحل بهاء طاهر من رحلته العميقة الطويلة، ومن خبرة الحياة والسنين، وأرد نقله في أعماله الأدبية الأخيرة للآخرين، هو أن المعرفة يجب أن تكون ميتافيزيقا للسعادة وليس الهم والحزن، وأن لا شيء في الحياة يستحق الحزن في الحقيقة، وعلى الإنسان أن يهرب منه بقدر الإمكان، ليبحث بدأب عن السعادة وعن فرحه الشخصي في صحبة من يُحب وفي المكان الذي يُحب.
إرسال التعليق